روائى الزمن الجميل يعترف بأن حليم نظم ضربات قلبه


بقلم : جمال الغيطاني

تخللت الأغاني والموسيقي حاسة سمعي مع الهواء الذي أتنفسه عبر الفراغ المكاني الذي أعيشه، لم يكن لدي اسرتنا البسيطة جهاز مذياع، كان في البيت كله جهاز واحد تمتلكه جارتنا، وكنا نخضع لمزاجها وتأثير علاقاتها. فلو أنها تشاجرت مع احدي الجارات تخفض الصوت خاصة ليلة الخميس الأولي من كل شهر وهكذا تحرم الجيران من صوت أم كلثوم.

كان ذلك في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينات، خلال هذه الفترة علقت بي أصوات محمد عبدالوهاب وليلي مراد وعبدالغني السيد وعبدالعزيز محمود وكارم محمود وحورية حسن وسعاد مكاوي. لأسباب عديدة، ربما أهمها علاقتي بالزمن، اتصل بالغناء القديم ومازلت، حتي أم كلثو م فان ما يستهويني منها ينتهي في أغاني الاربعينيات، خاصة رق الحبيب لمحمد القصبجي ودليلي احتار لرياض السنباطي، من هنا لا أذكر صوت عبدالحليم حافظ الا في نهاية الخمسينات. وكانت فاتحة العلاقة اغنية (صافيني مرة) التي كانت بمثابة منظم ضربات قلبي باتجاه ابنة الجيران التي احببتها من طرف واحد.

كذلك ظلموه لمحمد عبدالوهاب التي اشجتني كثيرا. وفي نهاية الخمسينات أصبح لدينا جهاز مذياع ماركة (صوت العرب) وصرت أسهر مع أم كلثوم. واسمع اغاني الظهيرة لمحمد عبدالوهاب واذوب صباحا في صوت ليلي مراد التي حفظت اغانيها.

مين يشتري الورد مني وأنا بانادي واغني..'

الحب جميل'

اكتب لك جوابات'

ثم توطدت العلاقة أكثر من خلال السينما، توطدت بالنسبة لاثنين، ليلي مراد وتلك علاقة يمكنني ان اكتب فيها مؤلفا ضخما، وبالنسبة لعبدالحليم فقد اندمجت به تماما في فيلم (حكاية حب) خاصة ان مريم فخر الدين كانت تشبه ليلي مراد التي حددت اطاري الجمالي وقسمات من سأتعلق بهن في القرب والبعد فيما تلي ذلك، أما (شارع الحب) فتعاطفت مع بطله الذي تضافر شارع محمد علي كله علي الاكتتاب ليتعلم في الجامعة،

تلك هي القيم التي كانت تبثها السينما المصرية في الخمسينات، في بداية الستينات كنت يساريا متشددا، وكنت اخطط مع زملائي لتغيير العالم، ولم نكن ندري ان العالم سيتغير بمعزل عنا وان الظروف ستطوينا رغم ارادتنا. كانت شطحاتنا قوية لكنها نبيلة وشكلت اساس انحيازاتي حتي الآن، كنت احيانا اصغي الي آراء غريبة من بعض الزملاء.. مثل ان صوت أم كلثوم اقطاعي. وصوت فيروز تقدمي، أما عبدالحليم فكانت النظرة السائدة اليه تشبه نظرة الكهول امثالي الآن الي الأغنية الشبابية والفيديو كليب.

لكنني سرا وبعيدا عن الزملاء المتشددين كنت أسمع أم كلثوم وابحر في صوتها، واعجب بعبدالحليم خاصة اغانيه الوطنية، هذه الأغاني، خاصة تلك السابقة علي هزيمة يونيو صاغت وجدان جيلي، وقد سمعتها في حينها، كانت مصر كلها تنتظر حفل الثالث والعشرين من يوليو، الاستعراض العسكري صباحا، والحفل الغنائي الساهر ليلا، وكما كنا ننتظر الخميس الأول من كل شهر لأم كلثوم، كنا ننتظر ما سيقدمه عبدالحليم وصلاح جاهين وكمال الطويل أو محمد الموجي وبالطبع محمد عبدالوهاب،

هذه الأغاني اسمعها الآن في اذاعة الأغاني التي تقدم خدمة رائعة وجليلة عندما تبث الحفلات ليلا، اصبحت الأغاني مثل النصوص العتيقة واللوحات القديمة المعلقة علي الجدران والنفائس المنسية، بنفس القدر الذي تحركني فيه الكلمات والموسيقي وصوت عبدالحليم، اتأثر بمقدمة المذيع (أما جلال معوض أو صلاح زكي أو عباس احمد أو عبدالحميد الحديدي وغيرهم من العمالقة)، المقدمات التي تملأ الفراغ الزمني الذي يسبق انفراجة الستار، لم انتبه اليها وقت اذاعتها، لكنني اتفحصها الآن، خاصة عندما يقول المذيع:

ويجلس أمامنا الآن الرئيس جمال عبدالناصر والي جواره....'

صارت تلك المقدمات جزءا من النص الغنائي بالنسبة لمن عاشوا زمن ظهورها أول مرة مثلي، صارت اشارات الي زمن مولي ظننا انه لن ينتهي، واذا به ينتهي بهزيمة نكراء مازلنا نعيش اثارها، اصغي الآن الي نصوص صلاح جاهين الجميلة واحلامه باوبرا في كل قرية وأعجب متسائلا: هل عشت هذه الأوقات؟

اصغي الي (صافيني مرة) و(علي قد الشوق) و(ظالم)، يحرك في صوت عبدالحليم الان الذكري وفي الماضي كان يثير مشاعر الحب، لقد اصبحت المشاعر القديمة مثل أوراق الورود التي نسيت بين صفحات الكتب ثم يكتشفها اصحابها فجأة بعد عقود، لكن تبدو بعيدة، منسية، منزوية، هكذا صوت عبدالحليم الآن، اشارة الي زمن ولي، واحلام بسيطة بريئة نقية ديست بوحشية وتركت ندوبا لاتحمي.

عرفت صوته، ورأيته مرة واحدة جاء الي مستشفي صيدناوي (التأمين الصحي الان) لزيارة ضياء الابنة الكبري للفنان عبدالرحمن الخميسي من ماما شفيقةرحمها اللههكذا كنت اناديها. دخل الغرفة، كان يرتدي قميصا وبنطلونا، انزويت اراقبه بدقة لفت نظري حجم رأسه الضخم بالنسبة لجسده النحيل، جلس فوق منضدة وبدا متواضعا صوته في الحديث قريب جدا من غنائه، بعكس ام كلثوم التي اجد فرقا بين صوتها كمتحدثة وصوتها كمطربة، داعب ضياء التي بدت سعيدة لان العندليب (حلم البنات وقتئذ) جاء لزيارتها لا أذكر ما قاله لكنني اذكر جيدا امساكه بصفحة من كراستها، ثناها وصنع منها مركبا ورقيا صغيرا قدمه الي ضياء قبل ان يغادر