عبدالحليم فى زمن الفيديو كليب


يكتبها : طارق الشناوي

سألت الموسيقار الكبير الراحل كمال الطويل : لو امتدت الحياة بعبدالحليم حافظ وتجاوز السبعين من عمره ما الذى كان من الممكن أن يقدمه الناس فى عصر 'الفيديو كليب'؟

أجاب 'كمال الطويل' : سيقدم الفيديو كليب بأسلوب عبدالحليم

تأملت كلمات كمال الطويل ووجدت أن سر عبدالحليم أنه كان ابنا للزمن الذى يعيشه، بل سابقا أيضا للزمن، يراهن على الكلمة واللحن القادم، كنا نعيش فى مطلع الخمسينيات ثورة سياسية وتحررا وطنيا، وجاء عبدالحليم ومعه كمال الطويل ومحمد الموجى وصلاح جاهين وانضم اليهم من الجيل السابق عليهم الشعراء مأمون الشناوى ومرسى جميل عزيز وحسين السيد فأحالوها الى ثورة عاطفية أيضا اطلق عبدالحليم باغنيته 'يا سيدى أمرك أمرك يا سيدي'

التى غناها فى فيلم 'ليالى الحب' أول احتجاج ساخر على الاغنية التى كانت سائدة قبل الخمسينيات، فهو مثلا يقول: 'بحقك أنت المنى والطلب' ثم يكمل: 'والله يجازى اللى كان السبب'! الكلمات كتبها فتحى قورة ولحنها محمود الشريف و'بحقك أنت المنى والطلب' قصيدة شهيرة من تلحين الشيخ 'أبوالعلا محمد' غناها كل المطربين والمطربات وعلى رأسهم 'أم كلثوم' تلميذة الشيخ 'أبوالعلا، ويتابع السخرية بموشح أكثر شهرة وهو 'بالذى أسكر من عرف اللما' ويضيف:

'كان فى حاله جاتله داهية من السما' والمقصود ب 'عرف اللما' الرائحة التى تخرج من الفم، وفى النهاية يقول: 'خايف أقول على قد الشوق لا تطلع روحي، يقصد أغنية 'على قد الشوق اللى فى عيونى يا جميل سلم' التى حققت فى مطلع الخمسينيات شهرة غير مسبوقة، وهذه الكلمات تستحق أن نسقطها على هذا الزمن الذى تترصد فيه الرقابة لأية سخرية وتعتبرها اعتداء على التراث القديم مثل بيت شعر 'امريء القيس': 'مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل' الذى كان يصف فيه 'امرؤ القيس'الفرس، وكنا ندرس هذه القصيدة فى المرحلة الاعدادية

رغم غلظة الكلمات التى تنفرنا من لغتنا الجميلة وهكذا كان المجتمع فى الماضى يسمح بثورة ضد الجمود و'عبدالحليم' هو ابن شرعى لزمن التمرد فى عام 1953 عند اعلان الجمهورية رسميا قال 'يوسف وهبي' فى حفل لأضواء المدينة: اليوم تعلن الجمهورية ويعلن أيضا مولد مطرب جديد، لهذا ارتبط اسم 'عبدالحليم' بالثورة المصرية وغنى لها: 'ثورتنا المصرية عدالة اشتراكية'، تلحين 'رءوف ذهني' و'إنى ملكت فى يدى زمامي' تلحين كمال الطويل والقصيدتان من تأليف 'مأمون الشناوي' بعد تولى 'جمال عبدالناصر' رئاسة الجمهورية عنى له من كلمات صلاح جاهين وتلحين كمال الطويل

'احنا الشعب اخترناك من قلب الشعب، يا فاتح باب الحرية يا ريس يا كبير القلب' وغنى له من كلمات اسماعيل الحبروك وتلحين الطويل 'يا جمال يا حبيب الملايين' واستمرت رحلة عبدالحليم الوطنية مع الثورة، وفى نفس الوقت كان عبدالحليم حافظ زعيم الاغنية العاطفية فى مصر والعالم العربي حلق عبدالحليم بجناحى الوطن والحب وغنى للوطن فى لحظة المد الثورى العربى وأيضا للحب حديث كان هو رسول العشاق بأغنياته وأدرك عبدالحليم من البداية أن صاحب الثورة ينبغى ألا يدخل فى معارك مع الكبار قبل أن يشتد عوده،

لهذا لم يستمر خلافه الاول مع محمد عبدالوهاب أكثر من عام، وذلك عندما تعاقد معه عبدالوهاب على تقديم فيلمين مقابل مائتى جنيه للفيلم الواحد، وتقاعس عبدالوهاب عن التنفيذ خوفا من ألا يملك اسم عبدالحليم جاذبية للجمهور، وعندما جاءت الفرصة لعبدالحليم مع ابراهيم عمارة قدم فيلم لحن الوفاء ونجح الفيلم وارتفع أجر عبدالحليم الى ألف جنيه فى ثانى أفلامه 'ليالى الحب' لكنه ارتضى بتنفيذ عقده مع عبدالوهاب مقابل مائتى جنيه حتى يكسب عبدالوهاب الى صفه ويشاطره نجاحه وبعد بطولة فيلم 'أيام وليالي' انتاج عبدالوهاب تحولا الى شريكين فى شركة صوت الفن وكان الشاعر مأمون الشناوى

هو صاحب مبادرة الصلح بين الطرفين فأصبح صوت عبدالحليم يدر ربحا على عبدالوهاب وألحان عبدالوهاب تدر ربحا على عبدالحليم ظل عبدالحليم يمتلك ترمومترا يدرك من خلاله الخطوة التالية فهو يقدم الاغنية المتطورة، وفى نفس الوقت ينبغى أن تحقق رواجا جماهيريا، لهذا التقط فى عام 1957 الموسيقار الشاب بليغ حمدى وضمه الى رفيقى الكفاح الطويل والموجى وإلى الاستاذ محمد عبدالوهاب وإلى الملحن صاحب الالحان خفيفة الظل منير مراد هؤلاء كانوا هم القوة الغنائية الضاربة لعبدالحليم حافظ وعبدالحليم يستخدم أى سلاح للبقاء على القمة والاستحواذ على اللحن الاجمل

كان بليغ يجرى بروفات أغنية 'تخونوه' التى كتبها اسماعيل الحبروك فى معهد الموسيقى العربية لكى تغنيها ليلى مراد واعجب عبدالحليم باللحن وكان بصدد تصوير فيلم 'الوسادة الخالية' لصلاح أبوسيف واستوقفت اذن 'عبدالحليم' تلك المسحة المليئة بالشجن فى لحن بليغ حمدى ولا يعنيه أن يغضب ليلى مراد ويستولى على الأغنية ويحتل بليغ بعد 'تخونوه' مساحة مميزة على خريطة عبدالحليم تصل الى حد الانفراد بكل أغانى عبدالحليم منذ منتصف الستينيات لاشك ان عبدالحليم فى اصراره على البقاء متربعا على عرش الاغنية كان بين الحين والآخر يتعرض لمحاولات اقصائه أو استبداله أو ­ على أقل تقدير

­ مشاركة العرش بدأت المحاولات مع كمال حسنى هذا المطرب الذى وقفت وراءه المنتجة مارى كوينى بعد ان رفض عبدالحليم أن يلعب بطولة فيلم لحساب شركتها لانه لم ينس لها أنها فى مطلع حياته الفنية رفضت أن يصور أغنية من فيلم 'فجر' اخراج عاطف سالم وقالت للمخرج بعد ان رشحه ان وجهه ليس 'فوتوجينيك' واكتفت فقط بالتسجيل الصوتي لهذا انتجت لكمال حسنى 'ربيع الحب' بعد عام واحد من تقديم 'لحن الوفاء' لعبدالحليم، وأكثر من ذلك لنفس مخرج لحن الوفاء ابراهيم عمارة ونفس البطلة شادية وصديق البطل عبدالسلام النابلسى

ووقف الصحفى الكبير موسى صبرى مؤيدا لكمال حسنى الذى لم يستطع الصمود طويلا لانه كان مجرد تنويعة على صوت عبدالحليم وعندما اختلف حليم مع محمد الموجى اطلق الموجى أصوات 'محرم فؤاد' و'عبداللطيف التلباني' و'ماهر العطار' وصولا الى 'هانى شاكر' وبالفعل انزعج 'عبدالحليم' من صعود 'هاني' فى مطلع السبعينيات خاصة بعد نجاح أغنية 'كده برضه يا قمر' التى لحنها له 'خالد الامير' بتوصية من 'أم كلثوم وكان الرد العملى أن عبدالحليم أخذ بنصيحة كاتب كبير قال له:

'العيل يحاربه عيل' وقدم عبدالحليم حافظ للساحة الفنية 'عماد عبدالحليم' ليواجه به 'هانى شاكر ربما كانت أكثر اللحظات التى عاش فيها 'عبدالحليم حافظ' القلق تلك التى شهدت تألق محمد رشدى وشعبيته الجارفة بعد أغنيات 'وهيبة' للأبنودى و'عبدالعظيم عبدالحق' ثم 'عدوية' للأبنودى و'بليغ حمدي

كان عبدالحليم يغنى كلمات مغرقة فى الشاعرية والتجديد كتبها الاخوان 'رحباني' ولحنها 'محمد عبدالوهاب'

وهى 'يا شارع الضباب مشيتك أنا مرة بالعذاب ومرة بالهنا' و'محمد رشدي' يقول فى 'ايديا المزامير وفى قلبى المسامير

المصدر: موقع مدارات