عبد الحليم و السينما


منذ دخول الصوت في السينما والفيلم الغنائي له قيمته الكبرى في هذه الصناعة لإقبال الجماهير الشديد على هذا اللون من الفن وإستمرت السينما المصرية تعتمد على نجوم الغناء القدامى لفترة لم يستطع أي نجم جديد أن ينافسهم أو يصبح ندا لهم لذلك كان ظهور المطرب الفنان عبد الحليم حافظ في هذه الفترة عاملا من عوامل رواج هذا اللون من الأفلام كما أنه من أول ظهوره في السينما في فيلم "لحن الوفاء" في 23 مارس 1955 قد تربع على عرش الأفلام الغنائية بجوار نجمها فريد الأطرش بعد ان احتجب عبد الوهاب عن الظهور

في الأفلام وبذلك أصبح عبد الحليم مطرب السينما في هذه الفترة والفترات التالية ولم يستطع أي نجم من النجوم الجدد أن يصل إلى مستواه .. وقدم عبد الحليم حافظ كثيرا من الأفلام الغنائية الناجحة في هذه الفترة وعددها 13 فيلما من مجموع الأفلام التي قدمها وحتى الآن وهي 15 فيلما وهي : لحن اوفاء - أيامنا الحلوة - ليالي الحب - أيام وليالي - دليلة - بنات اليوم - الوسادة الخالية- فتى أحلامي- شارع الحب- حكاية حب-البنات والصيف- يوم من عمري-الخطايا. أما الفيلمان الباقيان في الفترة التالية فهما "معبودة الجماهير" و"أبي فوق الشجرة"

منذ أن إنطلق صوت عبدالحليم حافظ بأغنية صافيني مرة بألحان محمد الموجي عبر المذياع أبان منتصف الخمسينيات وأعقبها بأغنية على قد الشوق بألحان كمال الطويل.. حتى كان الشارع المصري شبابا وفتيات وشيوخاً يرددون هذه الأغاني ويتلهفون على سماعها.. فأخيرا جاء صوت يجمع بين الرخامة والدفء والإحساس الذي تفتقده الغالبية العظمى من الشعب المصري.. وما هي إلا شهور قليلة حتى كان إسم عبدالحليم حافظ على كل لسان..

وبذكاء الموسيقار الذي لا يبارى أحس محمد عبدالوهاب بإنطلاقة عبدالحليم حافظ الذي جاء في موعده مع القدر ليسحب البساط من تحت أقدام غالبية مطربي هذه الحقبة من الزمن.. حيث كانت الساحة تعج بأصحاب الاصوات القوية المسموعة في طول البلاد وعرضها ونخص منهم.. على سبيل المثال لا الحصر فريد الأطرش، محمد عبدالوهاب، محمد قنديل، كارم محمود، عبدالعزيز محمود، عبدالغني السيد، محمد عبد المطلب، محمد الكحلاوي، شفيق جلال، محمد فوزي، عبده السروجي،

إبراهيم حموده، وغيرهم ممن لا تسعفني الذاكرة بأسمائهم، ومن الأمور القدرية أن أغنية على قد الشوق التي كتبها محمد علي أحمد ولحنها كمال الطويل، كان من المفروض أن يغنيها المطرب محمد قنديل التي قالت عن صوته يوما أم كلثوم انه يملك حنجرة بها صوت يضاهي صوتها في القوة والأداء، ولكن محمد قنديل رفض وقتها أن يغنيها حيث كان كمال الطويل وقتها ملحنا ناشئا. ومحمد علي أحمد مؤلفا مغمورا.. وهكذا القدر عندما يشاء لانسان الإنطلاق حيث غناها عبدالحليم حافظ لتكون بداية إنطلاقته الفنية التي إمتدت بعد ذلك الى ما يقرب من ربع قرن متربعا على عرش الغناء.. بل.. لن أبالغ إن قلت وإلى الآن.

ولنعد إلى مكاتبنا السينمائية التي بطلها هذه المرة، عبدالحليم حافظ وصراعه مع عبدالوهاب من أجل تصوير فيلم لحن الوفاء، فكما ذكرت سابقا ان عبدالوهاب يملك حاسة متقدة دائما تجاه الأصوات، فارسل إلى عبدالحليم حافظ يطلبه لكي يقابله بمكتبه الكائن بعمارة الايموبيليا بشارع شريف بالقاهرة، ولم يصدق عبدالحليم ذلك وسأل أكثر من مرة، هل هو المطلوب فعلا، أم عبدالحليم اخر؟ واكد له صديقه في ذاك الوقت مجدي العمروسي المحامي قبل ان يصبح مدير أعماله.. انه المقصود بهذه المقابلة.. وعلى حسب ما سمعناه ان عبدالحليم حافظ لم ينم ليلتها.. وأخذ يفكر في هذه المقابلة..

حتى ان شقيقه الراحل المطرب إسماعيل شبانة لاحظ عليه التوتر والحيرة وسأله ماذا الم به.. فأخبره بقصة المقابلة التي حددها الموسيقار محمد عبدالوهاب..

وشجعه شقيقه على ذلك.. وذهب عبدالحليم في الموعد المحدد تماما.. وبشخصه دون أن يصحب معه أحد كما أشيع مؤخرا على لسان أحد المقربين له عندما ظهر على شاشات القنوات الفضائية وأخذ يسرد حكايات غريبة وعجيبة عن عبدالحليم حافظ وكلها حكايات لم يكن يستطيع سردها ابان حياة هذا العندليب الأسمر.

المهم في ذلك ان عبدالحليم قابل محمد عبدالوهاب الذي كان قد كون شركة أفلام مع بركات ووحيد فريد وعرض على عبدالحليم حافظ عقداً لتمثيل ثلاثة أفلام وكان العقد يحمل في ثناياه بنودا تؤكد أن العقد عقد إحتكار لجهود عبدالحليم لمدة خمس سنوات تبدأ من تاريخ توقيع العقد أي من عام 1953 وحتى عام 1958 ميلادية بأجر شامل عشرين الف جنيه ولم يفكر عبدالحليم كثيرا فوقع العقد وقبض العربون وقيمته الفين جنيه، وطار عبدالحليم من الفرح، حيث كان أجر عبدالحليم عن الأغنية بالإذاعة لا يتعدى أربعين جنيها وعن الحفلة مئة جنيه..

وعاش عبدالحليم أحلام الشهرة التي ستصيبه من جراء الأفلام التي سيمثلها أمام مشاهير النجمات في ذلك الوقت.. ومر عام ولم ينفذ عبدالوهاب وعده له، بل إختفى تماما عن أنظار عبدالحليم وأخذ يطارد عبدالوهاب لكي يبدأ في أول فيلم..
وبعد أن فاقت شهرة عبدالحليم الأفاق بأغنية على قد الشوق.. أرادت المنتجة ماري كويني إستثمار نجاح الأغنية ومن غناها، فإتفقت مع المخرج الراحل إبراهيم عمارة على البحث عن قصة تصلح إلى تحويلها فيلما سينمائيا لبطل غنائي وفعلا تم العثور على القصة التي كتبها محمد علي سامي

وكتب لها السيناريو والحوار إبراهيم عماره وسيد بدير وتم إستدعاء عبدالحليم حافظ لكي يمثل الدور الأول الغنائي أمام الفنانة شادية والفنان حسين رياض والفنانة زوزو نبيل.. ولكن هناك عقبة تمنع عبدالحليم من توقيع العقد الا وهو عقده مع محمد عبدالوهاب.. عقد الإحتكار وأسقط في يد الجميع.. ما هو الحل؟! حاولت ماري كويني مع عبدالوهاب حتى يستثن عبدالحليم من شرط عدم العمل مع الغير..

ولكن عبدالوهاب رفض وتأجل تصوير فيلم لحن الوفاء إلى موعد آخر حتى يتنازل عبدالوهاب عن موقفه المتعنت وجاءت عبدالحليم فرصة أخرى أمام فاتن حمامة وعمر الشريف وأحمد رمزي الذي كان وجهاً جديداً في ذاك الوقت، وهي تمثيل فيلم أيامنا الحلوة إخراج حلمي حليم، فضرب عبدالحليم عرض الحائط بعقد عبدالوهاب وقبل توقيع عقد أيامنا الحلوة، وبدأ التصوير فعلاً .. وإنتهى من تصويره ...

حيث كان هناك قضية متداولة أمام الجهات المختصة لفسخ عقد الإحتكار الذي لم ينفذ منه إلا بند واحد وهو دفع العربون فقط .. وعندما شد عبدالوهاب بأن عبدالحليم على وشك أن يكسب القضية طلب مقابلته ... وأعطاه تصريحاً بأن يعمل في أفلام الغير بشرط أن يكون تحت أمر شركة صوت الفن في أي وقت لتنفيذ العقد.

وطار عبدالحليم من الفرح وأخبر السيدة ماري كويني بذلك والتي كان لها الفضل في رفع القضية على عبدالوهاب لفسخ عقد الاذعان الذي تمسك به عبدالوهاب وكاد أن ينهي عبدالحليم في بداياته.

وإستعد الجميع لتصوير فيلم لحن الوفاء، حيث كان فيلم أيامنا الحلوة يتم تجهيزه للعرض التجاري، أي أن فيلم أيامنا الحلوة هو أول فيلم مثله العندليب الأسمر وليس لحن الوفاء .. ولكن منتج الفيلم أراد أن يضمن لفيلمه النجاح الأكيد فانتظر حتى تم عرض فيلم لحن الوفاء تجاريا ونجح نجاحا باهرا خاصة وأن الفيلم به كم من الأغاني زادت من جماهيرية عبدالحليم ...
ثم تم عرض فيلم أيامنا الحلوة الذي كان سبباً مباشراً في إزدياد جماهيرية عبدالحليم، وإنتشاره كمطرب وممثل،

وهنا تأكد محمد عبدالوهاب أنه جاء الوقت لكي يستثمر هذا الفنان، فبدأ بتصوير فيلم أيام وليالي، ثم فيلم بنات اليوم ثم فيلم دليله، وهكذا تم للموسيقار محمد الوهاب ما أراد، لأن عبدالوهاب كان يحاول أن يضمن لأفلامه النجاح، وتحققت نبوءة عبدالوهاب فقد أصبح عبدالحليم حافظ بعد ذلك شريكاً بشركة صوت الفن بعد إنسحاب بركات منها وأصبحت ثلاثية الأضلاع محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ، ووحيد فريد وأدار الشركة مجدي العمروسي المحامي.

وهكذا أيها القارئ العزيز، ما هو رأيك إن لم يعاند عبدالحليم حافظ وأذعن لعقد عبدالوهاب هل كنا سمعنا عن العندليب؟!! لأن هذا العقد تم مع المطرب محمد أمين وإنتهى مع المطرب جلال حرب وإنتهى .. ولكن الله أنقذ عبدالحليم من براثن هذا العقد المذعن المجحف. لذا لابد من الأخذ في الإعتبار مثل هذه العقود التي تنهي الفنان تماماً وتجعل منه شيئاً على الهامش.